سيد أحمد خضر يكتب: ماذا بعد جنيف؟

سيد أحمد خضر يكتب: ماذا بعد جنيف؟
مؤتمر جنيف

بقلم: سيد أحمد خضر المحلل السياسي السوداني 

كانت الجماهير تتوقع أن تصدر "قوى تقدم" بياناً يوضح الخطة (ب) بعد خيبة أملهم في الخطة (أ) المتمثلة في مخرجات مؤتمر جنيف. ويبدو أن "قوى تقدم" تعمل بلا خطط وتسير في نفس نهج "قوى الحرية والتغيير" (قحت)، التي كانت تتبع أسلوب رد الفعل في كل حراكها السياسي. وبهذا تكون، كما يقول المثل الشعبي: "حليمة رجعت لعادتها القديمة". للأسف، لم تتعلم "قحت" من تجربة مرحلة الشراكة في اتفاق الوثيقة الدستورية، التي تمخضت عنها حكومة الفترة الانتقالية، حيث لم تمارس "قحت" حتى فضيلة رد الفعل، إذ كانت اليد العليا دائماً للمكون العسكري، منذ أن استولى على رئاسة المرحلة الأولى من الحكومة الانتقالية بدون وجه حق.

لم تدرك "قحت" أن تلك الفترة كانت الأهم لإنجاز مستحقات الثورة، وفي مقدمتها تفكيك دولة الإنقاذ التي بقيت متجذرة في السلطة، سواء في الخدمة المدنية أو العسكرية، لتصبح معول هدم حتى اليوم. استغل المكون العسكري تلك اليد العليا لفرض قوات الدعم السريع كشريك ثالث في اتفاق الوثيقة الدستورية، ليتمكن من تعزيز موقفه. وعلى الرغم من أن الدعم السريع كان فصيلاً من القوات المسلحة منذ إصدار قانون الدعم السريع عام 2017، إلا أن المكون العسكري تمكن في غفلة من المكون المدني من تنصيب قائد الدعم السريع، حميدتي، كنائب أول لرئيس مجلس السيادة دون أي مسوغ قانوني.

عمل المكون العسكري على تعطيل قرارات وقوانين الفترة الانتقالية، بما في ذلك تشكيل المحكمة الدستورية، وجهاز السلطة القضائية، وقانون النقابات لمنع قيام النقابات التي تدرك اللجنة الأمنية دورها كأهم حواضن الثورة. كما حاول المكون العسكري عرقلة مسيرة الفترة الانتقالية من خلال السيولة الأمنية وخلق بيئة ملائمة للفراغ الأمني، بعد سيطرته على وزارتي الدفاع والداخلية، مما أدى إلى رعاية وانتشار عصابات النهب المسلح و"تسعة طويلة" والاضطرابات السياسية والقبلية مثل قفل الميناء وطريق الشرق.

استحوذت اللجنة الأمنية على أهم ملفات الثورة، مثل الملف الاقتصادي، وملف العلاقات الخارجية، وملف سلام جوبا. واستطاعت اللجنة التخلص من أهم وزراء الثورة، مثل بروفيسور محمد الأمين التوم، وزير التربية والتعليم، الذي حاول جاهداً تشخيص مشاكل التعليم ووضع العلاج الناجع لها. تمثل ذلك في منهج تعليمي علمي كان يُعدّ الترياق لمنهج الإنقاذ الذي صُمم لغرض إعادة صياغة الإنسان السوداني المحشو بالأفكار المتطرفة والهوس الديني. لكن للأسف، وباستجابة لضغوط المهوسين، تم تجميد المناهج التعليمية الجديدة، مما شكّل أولى الضربات التي سددت للثورة، حيث يُعد التعليم أساس ومفتاح التغيير وتطور الدول والشعوب.

الوزير الثاني المستهدف كان دكتور أكرم علي التوم، وزير الصحة، الذي كان يحاول إعداد الوزارة للقيام بدورها المحوري الذي سُلب منها لتنفيذ سياسة التمكين من الثروة في مجال الخدمات الصحية والبيئية. كانت وزارة الصحة أحد أهم موارد التمكين من الثروة، حيث أصبح العلاج سلعة تباع بعدما كان يُقدّم مجاناً للمواطنين. جُرّدت الوزارة من دورها تماماً في عملية الإشراف والرقابة على المؤسسات العلاجية والدواء.

وكانت وزارة التجارة هي الهدف الثالث، حيث تم إبعاد السيد مدني عباس مدني، الذي كان يعمل على إعادة دور الوزارة كإحدى أهم وزارات الاقتصاد من خلال الإشراف والرقابة على التجارة الداخلية والخارجية، والاستيراد والتصدير. كانت الوزارة تضم لجاناً فنية متخصصة للحبوب الزيتية، والصمغ العربي، والقطن، والأسمنت، وكانت هذه اللجان معنية بتطوير وترقية الصادرات للحفاظ على أسواق الصادر الخارجية والتنافس وضبط الجودة والالتزام بالمواصفات. لكن الوزارة تعرضت للتهميش وسُلبت صلاحياتها لصالح تنفيذ سياسة التمكين من الثروة، مما أدى إلى فقدان السودان للكثير من أسواق الصادرات التي كانت لنا الريادة فيها، مثل القطن والحبوب الزيتية والصمغ العربي. وقد استفادت من هذا الفراغ دول أفريقية أخرى واحتكرت أسواق السودان، وأصبحنا نتحدث عن استغلال المصريين لصادراتنا دون إدراك أن السبب في ذلك هو بني جلدتنا بسبب الفوضى التي حدثت نتيجة لغياب وزارة التجارة.

أصبحت مهنة التجارة تُمارس بدون سجل تجاري، وأصبح الأجانب يمارسون التصدير دون ضوابط، مع عدم عودة ريع الصادرات لخزينة الدولة. بدلاً من الاستفادة من السوق المصري الكبير الذي يُعد الأقرب لنا والأقل تكلفة، نجد أنفسنا عاجزين عن محاربة عصابات التهريب المسنودة من النافذين في الدولة، والتي أصبحت عزبة يحتكر ريعها المؤتمر الوطني وحراسه من العسكر والانتهازيين.

لقد استمع الناس قبل فترة إلى التسجيلات الصوتية المسربة التي تكشف عن العصابات التي تتحكم في تصدير وتهريب موارد البلد من ذهب وبترول وغيره. وبعد الانقلاب، زادت الفوضى ونهب موارد السودان، وفي مقدمتها البترول والذهب.

خلاصة القول، لابد من تحرك عاجل لقوى تقدم وكل المكونات السياسية والوطنية المؤمنة بالثورة لإنقاذ الوطن والثورة، والعودة إلى مسار الثورة. يجب إنشاء حلف قومي وطني قوامه كل المكونات المدنية والعسكرية المؤيدة للثورة والمؤمنة بأهدافها لعزل حكومة الأمر الواقع الحالية وعزل الكيزان والفلول. يمكن تشكيل حكومة ظل من الخبراء والمختصين، وستجد هذه الحكومة اعتراف العالم ودول الإقليم. كما يجب التحضير لقيام مؤتمر دستوري يضم ممثلين لكل أطياف السودانيين المؤمنة بالثورة، من أحزاب ومنظمات مجتمع مدني وعسكري ونقابات وغيرها، لوضع خارطة طريق لمرحلة ما بعد الحرب. يشمل ذلك إنشاء جيش وطني يضم كل الفصائل المسلحة، بما فيها قوات الدعم السريع وبقية الحركات المسلحة، وتجريد كتائب الكيزان وغيرها من التنظيمات من أسلحتها. 

يجب تأسيس جهاز شرطة وفقاً للنمط الوارد في الاتفاق الإطاري، مع إعداد دستور دائم للبلاد، ووضع نظام حكم فدرالي في إطار السودان الموحد، وتطبيق نظام الديمقراطية التوافقية بنظام التمثيل النسبي الذي يتيح الفرصة لتمثيل كل فئات وقوى المجتمع. يتطلب ذلك قيام حكومة انتقالية متفق عليها من التكنوقراط لمدة محددة لبناء هياكل الدولة، وإصدار القوانين وكل ما تتطلبه الدولة الحديثة من مستحقات. 

بالله الهداية والتوفيق والسداد.