الرأسمالية الرقمية والروبوتات والبيروقراطية

الرأسمالية الرقمية والروبوتات والبيروقراطية
الرأسمالية الرقمية والروبوتات والبيروقراطية

بقلم: نبيل عبد الفتاح

في مراحل الثورات الصناعية من الأولى إلى الثالثة، مرورًا بالحداثة وما بعدها، برزت العديد من النظريات والمفاهيم الكبرى التي كانت في حالة استمرارية مع التغير، تزامنًا مع بروز مصطلحات جديدة محمولة على نظريات سياسية، فلسفية، سوسيولوجية، وقانونية. وقد ساهمت هذه النظريات في تحليل التغيرات المتسارعة في مجالات الحياة، خصوصًا مع التطورات التكنولوجية، والسياسية، والاقتصادية.

ما بعد الحداثة وتحديات السيولة

مع الثورة الصناعية الثالثة، برزت مظاهر "السيولة" واضطرابات الحداثة الفائقة كما وصفها المفكر زيجمونت باومان، خصوصًا بعد انهيار الإمبراطورية السوفيتية، وتراجع تأثير الفلسفة الماركسية. ومع بروز الهيمنة الأمريكية، ظهرت تجديدات نسبية في المقاربات الماركسية، خاصة فيما يخص الدولة والنيوليبرالية الوحشية، إلا أن التحولات التقنية والعلمية أحدثت شرخًا في مفاهيم الحداثة والدولة القومية.

الرأسمالية الرقمية والسلطة

مع التحول نحو الثورة الصناعية الرابعة، باتت الرأسمالية الرقمية قوة كونية تتجاوز الدول القومية وتعيد تشكيل العالم. لم تعد الدولة تمثل الإرادة العامة وفق المنظورات الهيجلية أو الماركسية، بل أصبحت خاضعة لتأثير الشركات الرقمية الكبرى، التي تمتلك ميزانيات وأرباحًا تفوق ما تملكه بعض الدول.

هذه الشركات باتت قادرة على إحداث تغييرات جوهرية في الأجهزة البيروقراطية، والسلطات التنفيذية، والتشريعية، بل وحتى القضائية، كما يحدث في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية المتقدمة.

الدولة تلهث وراء التغيرات

في عصر السرعة الفائقة، تحاول النظم الليبرالية التمثيلية وغيرها من النظم التكيف مع طوفان التغيرات الرقمية، والذكاء الاصطناعي التوليدي، والروبوتات، التي لا تؤثر فقط على الاقتصاد، بل تمتد إلى التعليم، والثقافة، والإنتاج الإبداعي، وحتى مفاهيم المواطنة والمجتمع المدني.

تغيُّر المفهوم التقليدي للدولة

باتت الدولة القومية، كمفهوم فلسفي وسياسي، تواجه تحديات جذرية أمام تمدد الرأسمالية الرقمية. فالشركات العملاقة تمارس تأثيرًا مباشرًا على أجهزة الأمن، والتسلح، والاستخبارات، وحتى في نظم الرقابة، من خلال توظيف البيانات الضخمة وتحليلها وبيعها. كما تساهم في تسليع الإنسان والحياة، من خلال خلق رغبات استهلاكية متجددة وغير مرتبطة بالحاجة.

الذكاء الاصطناعي وسوق العمل

الذكاء الاصطناعي التوليدي والروبوتات يهددان أسواق العمل التقليدية، ليس فقط بإزاحة الإنسان من الوظائف، بل بتهديد الفكر والوعي الإنساني ذاته. حيث يمتد تأثير هذه التقنيات إلى الفكر والإبداع والتعليم والسينما، مما يؤدي إلى تآكل البنى الفلسفية والنظرية التي قامت عليها الدولة الليبرالية والمجتمع المدني.

احتمالات وسيناريوهات مستقبلية

أمامنا احتمالان رئيسيان:

1. خروج الذكاء الاصطناعي عن السيطرة: سواء من الشركات أو من بعض الأفراد والمجموعات غير الخاضعة للرقابة، خاصة من أجيال ما بعد "ألفا" و"زد".

2. تطور ذاتي للذكاء الاصطناعي: ما قد يؤدي إلى ردود أفعال على الأفعال الإنسانية، بما في ذلك الأنظمة الرقابية نفسها.

الروبوتات والبيروقراطية الجديدة

من المرجح أن تحل الروبوتات وأنظمة الذكاء الاصطناعي محل الجهاز البيروقراطي البشري، سواء في التخطيط أو الإدارة، مما يغير مفهوم الدولة ذاته، خصوصًا فيما يتعلق بعلاقة الأمة/الشعب بالدولة.

اغتراب الإنسان ومآلات الثقافة

هذه التحولات قد تخلق حالة من الاغتراب الإنساني، والتهميش الوجودي، خصوصًا مع تصاعد البطالة وفقدان القدرة على التكيف مع التحولات التكنولوجية. ستصبح المفاهيم التقليدية عاجزة عن تفسير واقع جديد يفرض نفسه بقوة.

اضطرابات وتفاعلات عالمية

في ظل هذه الفوضى المفاهيمية والتقنية، تسود اضطرابات سياسية وشعبوية، وتعود مظاهر القومية الكلاسيكية وثقافة الكراهية. هذا في ظل صعود الصين وآسيا بثقافاتها المختلفة عن القيم الغربية، وهو ما يخلق صراعًا جديدًا بين الحضارات، على خلفية السيطرة على أدوات الثورة الصناعية الرابعة.