الجغرافيا الاستخباراتية في إفريقيا: خرائط الظل وصراع المصالح والنفوذ

الجغرافيا الاستخباراتية في إفريقيا: خرائط الظل وصراع المصالح والنفوذ
رامي زهدي - وادي النيل

بقلم: رامي زهدي – خبير الشؤون الإفريقية

منذ نهاية الحرب الباردة، تغيّر مفهوم إدارة النفوذ العالمي بشكل جذري وإن كان هادئًا. لم تعد السيطرة على الأرض تتطلب جيوشًا تزحف أو أساطيل ترسو، بل باتت المعلومات، والمعرفة الدقيقة بالسكان، والخرائط الطبيعية والعسكرية، هي مفاتيح النفوذ الحقيقية. في هذا السياق، برز مفهوم "الجغرافيا الاستخباراتية" كأداة مركبة، تجمع بين القوة الناعمة والخشنة، لإعادة تشكيل موازين القوى في القارة الإفريقية.

تحولت إفريقيا إلى مسرح معقد للعبة شطرنج غير تقليدية، حيث تتحرك القطع على "خرائط الظل". فالجغرافيا الاستخباراتية لم تعد تكتفي بتحليل الحدود والتوزيع الديمغرافي، بل تشمل مراقبة أنماط النزاع، تحركات الجماعات المسلحة، التفاعلات الإثنية، مسارات التهريب، وتحليل الصور الفضائية والبيانات الرقمية المتدفقة من شبكات التواصل والبنى التحتية الحيوية.

وتُعد تقنيات الذكاء الجغرافي (Geospatial Intelligence) من أبرز أدوات هذه المقاربة، إذ تجمع بين تحليل الصور الجوية والفضائية والبيانات الاستخباراتية التقليدية، لتقديم قراءة دقيقة للمشهد الميداني، سواء في المناطق الغنية بالثروات أو الهشة أمنيًا.

القوى الكبرى وخرائط النفوذ السرية في إفريقيا

أول هذه القوى هي الولايات المتحدة الأمريكية، التي تنتشر عبر أكثر من 34 موقعًا عسكريًا واستخباراتيًا في القارة، أبرزها في النيجر، جيبوتي، وكينيا، تحت مظلة "أفريكوم" (AFRICOM). وتقوم هذه القيادة بمهام مراقبة واستطلاع، وتدريب قوات محلية، وتوفير دعم استخباراتي في مناطق الساحل والقرن الإفريقي، إضافة إلى برنامج ISR (الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع) الذي يستخدم طائرات مسيّرة وأقمارًا صناعية ومحطات رصد إلكترونية لتعقب الجماعات المسلحة.

فرنسا، رغم تراجع وجودها العسكري بعد انسحابات متتالية من مالي وبوركينا فاسو، ما زالت تحتفظ بشبكة نفوذ استخباراتي ناعم، تقوم على أدوات مثل اللغة والتعليم والدعم الإنساني، إضافة إلى وجود وحدات أمنية صغيرة مختصة بمكافحة الإرهاب.

روسيا، عبر مجموعة "فاجنر" سابقًا، نقلت الحرب بالوكالة إلى مستوى غير مسبوق، ودمجت بين الدور العسكري والاستخباراتي، لا سيما في إفريقيا الوسطى ومالي والسودان. وبعد مقتل يفجيني بريغوجين، تم نقل هذه الأدوار إلى هياكل جديدة مثل "فيلق إفريقيا" (Africa Corps)، الذي يجمع بين الأمن والاستخبارات والاستثمار.

الصين، تستخدم الاستخبارات كأداة لحماية مصالحها الاقتصادية، حيث تمتلك قاعدة عسكرية في جيبوتي، وتدير بنية رقمية واسعة لمراقبة مشاريع "الحزام والطريق"، وتعمل على تأمين استثماراتها في أكثر من 40 دولة إفريقية، خصوصًا في مجالات التعدين والبنية التحتية.

أما القوى الإقليمية الأخرى، تركيا تنشط عبر الجمعيات والمنح التعليمية والدينية، وتوفر دعمًا استخباراتيًا غير مباشر من خلال وكالة التعاون "تيكا".

إيران تركز على غرب إفريقيا عبر دعم جماعات دينية ذات طابع سياسي.

إسرائيل تطور علاقاتها الاستخباراتية خاصة في شرق إفريقيا، لاسيما مع إثيوبيا، وتوظف هذه العلاقة في ملفات حيوية مثل سد النهضة والبحر الأحمر.

الاستخبارات والموارد.. من يملك من؟

تضم إفريقيا أكثر من 30% من احتياطي العالم من المعادن الإستراتيجية، مثل الذهب والكوبالت والليثيوم واليورانيوم، ما يجعلها هدفًا رئيسيًا للجغرافيا الاستخباراتية. وتشير البيانات إلى تزايد الهجمات على شركات التعدين الأجنبية في مناطق مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وهو ما يعكس صراعًا خفيًا على الموارد.

كما تظهر تقارير الأمم المتحدة أن نحو 70% من الانقلابات التي شهدتها إفريقيا خلال العقد الأخير ترافقت مع تحركات كثيفة لأجهزة استخبارات أجنبية تحت غطاء "دعم الاستقرار".

الفضاء السيبراني.. الجغرافيا الجديدة للاستخبارات

لم تعد الاستخبارات مقتصرة على الأرض، بل امتدت إلى الفضاء الرقمي، حيث تنتشر الجيوش الإلكترونية. وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن 65% من الدول الإفريقية لا تمتلك استراتيجية وطنية للأمن السيبراني، مما يجعلها عرضة للاختراق والتجسس، في ظل انتشار منصات رقمية تقوم بجمع بيانات المواطنين وتحليل المزاج العام تحت غطاء تقديم الخدمات.

مصر.. نموذج متوازن في هندسة النفوذ الاستخباراتي

في هذا المشهد المعقد، تقدم مصر نموذجًا متماسكًا، إذ تنطلق رؤيتها من أن الأمن الإفريقي مسألة وجودية، لا مجرد مصلحة عابرة. وتنعكس هذه الرؤية في دعمها لجهود الاستقرار في السودان، ليبيا، القرن الإفريقي، وبقية أنحاء القارة.

تمتلك مصر أحد أقدم الأجهزة الاستخباراتية في المنطقة، ذات امتداد إفريقي تقليدي يجمع بين العنصر البشري والمعلومة الدقيقة، ما يمنحها قدرة على التحرك الاستباقي، وفهم ديناميكيات الأطراف الأخرى.

وتحرص مصر على تصدير "الدبلوماسية الأمنية" من خلال برامج التدريب والتأهيل والمساعدات، بما يعزز موقعها كشريك موثوق وطرف مرجح للتعاون والتنسيق.

المستقبل.. نحو خريطة استخباراتية متعددة الأقطاب

تتجه إفريقيا نحو إنشاء شبكات استخباراتية مستقلة، أبرزها مشروع الاتحاد الإفريقي لتبادل المعلومات الاستخباراتية، وتوسيع الاستثمار في الأقمار الصناعية. وقد تم بالفعل تدشين مقر وكالة الفضاء الإفريقية في القاهرة، بعد أن سبقتها مصر في تأسيس وكالة وطنية رائدة في هذا المجال.

كما يتوقع أن يتم تطوير مراكز تحليل استخباري إفريقية خالصة، وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي في دعم القرار السيادي.

أخيرًا.. من يملك الخريطة؟

في نهاية المطاف، تظل الجغرافيا الاستخباراتية ساحة مغلقة لا تُفتح إلا لمن يمتلك أدواتها. وبين خيار أن تكون إفريقيا ساحة مستباحة أو لاعبًا رئيسيًا، يبقى الرهان على بناء شبكات سيادية مستقلة. وهنا، تبدو مصر مطالبة بأداء دور إستراتيجي يتجاوز الأمن التقليدي، نحو ترسيخ بنية استخباراتية إفريقية، تُدار بالأرقام وتُصان بالسيادة

.