من «إعدام جوزيف» إلى «الشروع في إعدام خاطر»: قراءة سياسية أدبية في رواية د. ضيو مطوك

من «إعدام جوزيف» إلى «الشروع في إعدام خاطر»: قراءة سياسية أدبية في رواية د. ضيو مطوك
إعدام جوزيف - وادي النيل

كمبالا - وادي النيل 

حين يتحول الأدب إلى وثيقة سياسية دامغة، وتغدو الرواية شهادة على مرحلة كاملة من تاريخ السودان، لا يسع القارئ إلا التوقف أمام عمل مثل "إعدام جوزيف"، الذي خطه السياسي والأديب الدكتور ضيو مطوك، بلغة تنضح بالألم، وتنبض بالوعي، وتصرخ بالتاريخ.

قبل سنوات، عرفتُ الدكتور ضيو مطوك كسياسي محنك شارك في مفاوضات اتفاق جوبا للسلام، لكني لم أتعرف عليه كأديب، برغم إحساسي الدائم أن خلف ملامحه الصارمة يختبئ فنان.. حتى جاءني اتصال من المحامي الصادق علي حسن، يدعوني لتقديم رواية "إعدام جوزيف"، فكان الاكتشاف المتأخر، والمذهل.

رواية سياسية.. بقناع فني

في البدء، قد تبدو "إعدام جوزيف" عملاً روائياً محضًا، لكن ما إن تتوغل في صفحاتها حتى تدرك أنها شهادة سياسية مكتوبة بأسلوب أدبي. فالرواية تروي حياة جوزيف جون باك، الشاب الجنوبي الذي قرر الهروب من التمرد والعنف، واختار طريق الوحدة، متجهاً إلى الخرطوم، لكنه انتهى إلى حبل المشنقة.. تماماً كما انتهى حلم "سودان جديد" إلى "انفصال الجنوب".

فمنذ سطورها الأولى، تحمل الرواية محمولات رمزية كثيفة: قطار أويل، الذي كان يُفترض أن يربط بين الجنوب والشمال، يتحول إلى وسيلة لنقل الموت والذل، بدلًا من التواصل والتنمية.

قطار أويل.. رمز الظلم الممتد

قطار أويل في الرواية لا يحمل البضائع أو البشر، بل يجر خلفه عربات من السلاح والاضطهاد، مدججًا بجنود الدفاع الشعبي، الذين كانت أجورهم تُدفع من أبقار وممتلكات الجنوبيين المنهوبة. صورة حية وموجعة تذكرنا بحملات "صيد الرقيق" في زمن الحكم التركي المصري، وكأن الزمن في السودان لا يتحرك بل يدور في حلقة مأساوية مغلقة.

الخرطوم: منفى الأمل

في الخرطوم، لم يجد جوزيف الأمان، بل واجه عنصرية اجتماعية واضطهاداً دينياً منظماً. اعتُقل ظلماً، فقط لأنه "الجنوبي الوحيد" الذي يحمل اسم يوسف. نُسجت حوله تهمة القتل لأنه ببساطة من جنوب السودان. أُدين لأنه "آخر المختلفين" في حي يهيمن عليه الوعي العنصري والتدين الإقصائي.

لم يكن الإسلام السياسي في الرواية مجرد خلفية أيديولوجية، بل كان البطل السلبي الحقيقي: نظام التمكين، جهاز الأمن، المحاكم، المقدم ياسين، القاضي، الدفاع الشعبي.. كلهم أدوات في مسرحية الظلم.

جوزيف.. رمز مشروع الوحدة المغدورة

جوزيف ليس فرداً في الرواية، بل رمز لشريحة كاملة من الجنوبيين الذين آمنوا بالوحدة والمواطنة. بينما حمل البعض السلاح من إثيوبيا، حمل جوزيف أمل التعايش. لكن النظام الإسلامي الحاكم آنذاك، كما يكشف لنا ضيو مطوك، كان يعمل وفق معادلة خبيثة: "إما الأسلمة أو الطرد".. ولذلك فإن إعدام جوزيف كان فعلياً هو إعدام لفكرة السودان الموحد، المتعدد.

السلفية مقابل الصوفية: صراع في العمق

المفارقة الكبرى في الرواية تتجلى في العلاقة بين التدين السلفي الذي تبنته الدولة، والتدين الصوفي الذي حافظ عليه المجتمع. الدولة التي أسست مؤسساتها على "التمكين" و"الجهاد" لم تر في جوزيف سوى كافر يجب التخلص منه، حتى بعد أن أسلم على يد بن لادن.. أما الناس البسطاء في السوق والسجانة والسجن، فقد أحبوه، دافعوا عنه، وآمنوا ببراءته.

في الصوفية، الإنسان أولاً، وفي السلفية، الإنسان آخرًا.

وهنا تتجلى قوة الرواية: ليست فقط في لغتها، بل في أطروحتها الفكرية العميقة، التي تربط الحاضر بالاستعمار، والسلفية بالتاريخ، والحروب بالعنصرية.

نهاية.. أم بداية؟

"إعدام جوزيف" ليست نهاية حكاية، بل بداية وعي. إنها صرخة سياسية بلسان أدبي، كتبها ضيو مطوك وهو يرتدي قناع الأديب، لكن بقلب السياسي الذي يعرف كيف يُصيغ الحقيقة، ويجعل من جوزيف، ومن الرقيب عثمان خاطر، ومن "قطار أويل" مشاهد لا تُنسى.

ومن هنا، فإن "إعدام جوزيف" ليست رواية للتسلية، بل وثيقة يجب أن تُقرأ في المدارس والجامعات، كي يعرف الجيل القادم لماذا فشل مشروع السودان الموحد، وكيف يمكن إنقاذ ما تبقى من الوطن.

فما حدث مع جوزيف قد بدأ يتكرر مع "خاطر" في حرب اليوم.. فمن يتصدى للشروع في إعدامه القادم؟