الثقة المفقودة: لماذا لا يثق الأفارقة في أنفسهم؟

بقلم:رامي زهدي
في كل مرة نسمع فيها حديثًا عن "إفريقيا المستقبل"، تتكرر العبارات نفسها: "قارة الفرص"، "أغنى قارة بثرواتها"، "المطمع الدولي"، و"المارد النائم". لكننا، رغم امتلاء القواميس السياسية والاقتصادية بهذه الجمل اللامعة، نقف أمام سؤال صادم ومفصلي:
هل يؤمن الأفارقة فعلًا بأنفسهم؟ وهل يثقون في قدرات قارتهم على النهوض والخروج من أزماتها؟
هذا المقال لا يسعى إلى تكرار المقولات المعتادة، بل يغوص في عمق الإشكالية الوجودية لأمة موزعة على أكثر من خمسين دولة، يقطنها أكثر من مليار نسمة، تمتلك ما لا تمتلكه أي قارة أخرى من ثروات، ولكنها في الوقت نفسه ما زالت تُصنف بين القارات الأكثر فقرًا، والأقل نموًا، والأكثر تعرضًا للتدخلات الخارجية.
«انفصام الخطاب عن الفعل في المشهد الإفريقي»
يتحدث القادة الأفارقة باستمرار عن التكامل، والاستقلال، والسيادة، ولكن الأفعال على الأرض كثيرًا ما تناقض هذا الخطاب. تُنظّم عشرات القمم والمؤتمرات والمبادرات كل عام، من "المنتدى الإفريقي للاستثمار"، إلى "أجندة 2063"، إلى "اتفاقية التجارة الحرة القارية"، ولكنها تبقى حبيسة النوايا الحسنة، ما لم تُترجم إلى إرادة فاعلة تؤمن بقدرة القارة على إدارة مصيرها.
في تقرير صادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي (WEF) عام 2023، تبين أن 70% من مشروعات البنية التحتية في إفريقيا لم تكتمل ليس بسبب غياب التمويل فقط، بل بسبب سوء الإدارة، وغياب التنسيق بين الدول، وضعف الثقة المتبادلة.
فهل يمكن لقارة لا يثق أبناؤها في بعضهم، أن تبني اتحادًا قاريًا فعالًا؟ وهل يمكن لنخب تتحدث عن "التكامل" وهي تستورد حتى إبر الخياطة، أن تقود قارتها إلى الاستقلال الحقيقي؟
«من ينهب إفريقيا؟ الخارج أم الداخل؟»
من السهل اتهام الغرب والصين وروسيا بأنهم ينهبون ثروات القارة، ويسيطرون على معادنها وأسواقها وموانئها. وهذا صحيح جزئيًا، لكن الحقيقة الأكثر مرارة أن أبناء القارة أنفسهم هم من يسمحون بهذا النهب، إما طمعًا أو يأسًا أو جهلًا أو افتقادًا للثقة.
في دراسة لجامعة كيب تاون حول أسباب فشل مشروعات التعدين الوطنية في إفريقيا، جاء أن أكثر من 60% من عقود الامتياز الضخمة يتم التوقيع عليها دون تقييمات عادلة، أو مقابل عمولات وامتيازات فردية، وغالبًا ما يتم تغييب الشفافية عن الشعوب.
إفريقيا تُنهب، نعم. ولكن لا يمكن أن نلوم الخارج فقط، إذا كانت النخب المحلية تفضل الاعتماد عليه، وتستبدل الإيمان بالقدرة الذاتية بالارتهان للغير.
«عندما تضعف الثقة، تضعف القرارات»
الثقة ليست كلمة شاعرية؛ إنها قرار سياسي واقتصادي وثقافي. عندما تؤمن دولة بقدرتها على توليد الكهرباء من مواردها الطبيعية، فإنها تطلق مشروعات للطاقة المتجددة. وعندما تؤمن بأبنائها، تبني منظومات تعليمية وطنية قوية.
وفي المقابل، عندما تفتقد الدولة لهذه الثقة، فإنها تؤجل المشروعات، وتستورد الحلول، وتستسلم للديون، وتترك المبادرة للآخرين.
خذ مثلًا مشروع "القطار الإفريقي السريع"، أحد أحلام التكامل القاري منذ عقود. ورغم أنه مدرج ضمن أجندة 2063، لم تبدأ أي دولة حتى الآن بتنفيذ جزء فعلي منه، لأن كل دولة تنتظر أن تبدأ الأخرى، أو أن يأتي التمويل من الخارج.
«لكن.. مصر… نموذج الثقة المتجددة»
عندما ننظر إلى التجربة المصرية في العقد الأخير، فإننا نرى أن الثقة بالنفس كانت مفتاح التحول. مصر التي عانت من اضطرابات سياسية واقتصادية، قررت أن تعتمد على نفسها، وأطلقت مشروعات كبرى في البنية التحتية، والطاقة، والتعليم، والإسكان، والصناعة، والزراعة.
بين عامي 2014 و2024، تم تنفيذ أكثر من 30 ألف مشروع قومي بإجمالي استثمارات تتجاوز 7 تريليونات جنيه. تم إنشاء أكثر من 7 آلاف كيلومتر من الطرق الحديثة، وافتُتحت مدن جديدة، وتم تطوير شبكات الكهرباء والمياه والصرف، وتضاعفت الصادرات الزراعية، وتحسنت مؤشرات الأمن الغذائي.
لكن الأهم من كل ذلك هو أن هذه المشروعات لم تُنفذ بالاعتماد الكامل على الخارج، بل بنسبة كبيرة بأيدي مصرية، وبشركات وطنية، وبإدارة واعية آمنت بقدرتها على الفعل.
هذه التجربة لا تُقدم كنموذج استعراضي، بل كمثال حي على أن الثقة قد تصنع المعجزات، عندما تكون مصحوبة بالإرادة والتخطيط والعمل.
«أمثلة.. رواندا والسنغال وغانا… حكايات الثقة في الذات»
رواندا، الدولة التي عانت من الإبادة الجماعية في التسعينيات، أصبحت اليوم واحدة من أنظف وأسرع الاقتصادات نموًا في إفريقيا. وقد تم بناء هذا النمو على الثقة في الذات، والانضباط، وتحفيز التعليم المحلي، وتقوية أجهزة الدولة.
السنغال، من جهتها، خطت خطوات مهمة في قطاع البنية الرقمية، والتعليم، ومشروعات الطاقة، مستفيدة من رؤية استراتيجية طويلة الأمد.
أما غانا، فقد تمكنت في السنوات الأخيرة من تحقيق تقدم ملحوظ في ملفي التصنيع المحلي والاستثمار في التكنولوجيا المالية. فقد أطلقت الحكومة خططًا استراتيجية لتعزيز القيمة المضافة للموارد المعدنية، وتحسين التعليم الفني، وتحفيز ريادة الأعمال الشبابية، مما انعكس على تحسين مؤشرات التنمية والقدرة التنافسية.
«اتفاقيات دون ثقة… تكامل بلا روح»
تم توقيع اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية AfCFTA في عام 2018، ودخلت حيّز التنفيذ في 2021، وسط احتفالات رسمية واسعة. لكنها حتى اليوم لم تُفعل بشكل حقيقي، لأن معظم الدول لم تُهيئ بنيتها الداخلية، ولم تُزل الحواجز الجمركية، ولم تُطلق خطوط النقل اللازمة.
والسبب؟ مرة أخرى، هو غياب الثقة في القدرة على المنافسة، والخوف من تحرير الأسواق، وتردد صناع القرار في فتح اقتصاداتهم.
الاتفاقيات، مهما بلغت أناقتها، لا تُثمر ما لم تُبْنَ على إيمان حقيقي بأن القارة قادرة على أن تتكامل، لا أن تتزاحم وتتنافس بشكل هدام.
«الإعلام، والتعليم، والنخب… تغذية الخوف أم بناء الثقة؟»
الثقة لا تنشأ من فراغ. إنها تُزرع في المدارس، وتُبنى في الجامعات، وتُبث في الإعلام، وتُحرسها النخب.
ولكن، هل تقوم هذه المؤسسات بدورها في إفريقيا؟ أم أنها تُكرّس لصورة القارة المستضعفة، المستهلكة، المعتمدة على الخارج في الغذاء والدواء والتفكير؟
معظم المناهج التعليمية في إفريقيا لا تُعزز الشعور بالفخر القاري، ولا تُدرّس التاريخ الإفريقي بصورة متوازنة. ووسائل الإعلام، في كثير من الدول، تُعيد إنتاج الصورة النمطية عن إفريقيا المتأزمة والفقيرة.
أما النخب الثقافية والسياسية، فإن كثيرًا منها ما زال يتحدث بلغة الاتكالية، وينتظر الحلول من "المجتمع الدولي"، دون أن يُشعل في مجتمعه شرارة الإيمان بالقدرة على البناء.
«ختام.. لا أحد سيبني إفريقيا إلا الأفارقة»
في النهاية، لا يُمكن لأي مشروع، أو رؤية، أو شراكة دولية أن تنجح ما لم يكن عمادها الثقة بالنفس، والإيمان بالقدرة، والاعتزاز بالانتماء.
إفريقيا لا تحتاج إلى مزيد من المؤتمرات، ولا إلى مئات المبادرات الورقية، بقدر ما تحتاج إلى رجال ونساء يؤمنون بها، ويعملون لها، ويجاهدون من أجل نهضتها، في المزارع والمصانع والمختبرات والمكاتب والمدارس.
لقد حان الوقت ليدرك الأفارقة أن لا أحد سيبني هذه القارة إلا أبناؤها. وأن التحرر من التبعية لا يكون بالكلمات، بل بالكفاح والعمل، والثقة العميقة بأننا لسنا أقل من غيرنا، وأننا نستحق حياة أفضل، تصنعها أيدينا، ونحميها بوعينا، ونورّثها لأجيالنا.