سوريا..بداية نموذج لدولة جديدة

بقلم:المحلل السياسي إدريس أحميد
سوريا، بتاريخها العريق وحضارتها الغنية، تعد واحدة من أقدم المراكز الحضارية في العالم. تعود جذور حضارتها إلى العصور القديمة، حيث كانت مركزًا للعديد من الثقافات والإمبراطوريات الكبرى، واحتفظت بمكانة بارزة في تاريخ البشرية.
حكم حافظ الأسد سوريا بعد أن تولى السلطة في عام 1970 إثر انقلاب عسكري عرف بحركة "الحركة التصحيحية"، التي قام من خلالها بتثبيت سلطته على البلاد عبر حزب البعث العربي الاشتراكي، وتمركز حكمه في سياسة استبدادية قمعية ذات طابع أمني قوي، حيث استعمل الجيش والأجهزة الأمنية لترسيخ سلطته والسيطرة على كافة مفاصل الدولة.
إقليميا .. كان هناك خلافات بين حافظ الأسد وصدام حسين على الزعامة، رغم كونهما ينتميان إلى نفس الحزب السياسي "حزب البعث العربي الاشتراكي". وفي عام 1980 دعم حافظ الأسد إيران في حربها مع العراق وعارض تدخل العراق في الكويت عام 1990، وشارك الجيش السوري ضمن قوات التحالف الدولي بقيادة أمريكا، على الرغم من توثر العلاقات السياسية بينهما، قبل أن تستقبل سوريا المعارضة العراقية، وهذا أحد أسباب العداء، قبل أن تشهد العلاقات تحسنا إبان حصار العراق وعادت سوريا واحتضنت الاف العراقيين بعد احتلال العراق عام 2003.
عليه فإذا ما تحدثنا عن شعارات المصالح العربية والعمل المشترك والشعب الواحد، يمكن القول بأن الخلاف العراقي السوري الذي استمر لعقود هو من بين القضايا الهامة، ودليل على فشل النظام العربي الرسمي، والجامعة العربية طيلة مسيرته في حل الخلاف العربية عربية بصفة عامة.
خليجيا، كانت علاقات حافظ الأسد مع دول الخليج متقلبة وتعتمد على التحولات الإقليمية والعوامل السياسية، إذ كان يسعى لتحقيق توازن بين التعاون الاقتصادي والتنسيق السياسي، مع الحفاظ على استقلالية سوريا الإقليمية والدولية، وتحديدا مع السعودية في الملف اللبناني، الذي أمسكت به سوريا، بعد تدخلها بعد الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976، حيث ارتبط الطرفان بنفوذ مما جعل التنسيق بينهما يستمر في كثير من الأحيان.
أما مع مصر، كانت العلاقات المصرية السورية تحت حكم حافظ الأسد متقلبة ومبنية على توازن بين التعاون في بعض الفترات ولعل أهم مراحلها عودة العلاقات بين البلدين في التسعينات، بعد لقاء الرئيسين في ليبيا، بوساطة معمر القذافي في طبرق بين حسني مبارك وحافظ الأسد وكانت خطوة مهمة نحو إعادة التواصل بين البلدين وتحقيق بعض التقارب في مرحلة صعبة في تاريخ العلاقات العربية.
عهد بشار الأسد وسقوطه
استلم بشار الحكم عام 2000، بعد وفاة أبيه واستمر في نفس السياسات الاستبدادية التي اتبعها والده، مع غياب الإصلاحات السياسية والاقتصادية الحقيقية، مما أثر على قدرة النظام على التكيف مع التغييرات الإقليمية والدولية، وأسهم في اندلاع الصراع الداخلي الذي استمر حتى سقوطه.
وهناك العديد من الأسباب التي أدت إلى ضعف النظام السوري خلال فترة حكم بشار الأسد، وأسهمت في تدهور الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مما ساهم في اندلاع الحرب الأهلية السورية، يمكن تلخيصها فيما يلي:
1. غياب الإصلاحات السياسية والاقتصادية: رغم الوعود بالإصلاحات منذ بداية حكم بشار الأسد، فإن النظام فشل في إجراء تغييرات حقيقية في الحياة السياسية والاقتصادية، إذ ظل النظام يهيمن عليه حزب البعث والأجهزة الأمنية، مما منع ظهور معارضة سياسية حقيقية وعرقل تطور مؤسسات ديمقراطية حرة. اقتصاديًا، استمرت الفجوة بين الطبقات الغنية والفقيرة في التوسع، مما أدى إلى تدهور مستوى معيشة المواطن السوري.
2. القمع الأمني المستمر: استخدم النظام السوري القوى الأمنية والعسكرية لقمع أي معارضة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية، مما خلق حالة من الاستياء الشعبي. هذا القمع المستمر دفع الكثير من السوريين إلى التشكيك في شرعية النظام، وأسهم في زيادة الاستقطاب السياسي داخل المجتمع السوري.
3. تفاقم الأزمات الاقتصادية: عانت سوريا من العديد من الأزمات الاقتصادية خلال فترة حكم بشار الأسد، مثل البطالة المرتفعة، الفقر المتزايد، والفساد المستشري في المؤسسات الحكومية. هذه الأزمات جعلت الشعب السوري يشعر بالعجز وعدم الرغبة في دعم النظام. علاوة على ذلك، ساهمت العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في تقليص فرص النمو الاقتصادي وزيادة الضغط على النظام.
4. الفساد المستشري في النظام: النظام السوري كان يعاني من فساد واسع النطاق في مختلف مؤسسات الدولة، سواء على مستوى السلطة التنفيذية أو العسكرية. هذه الممارسات كانت تستنزف الموارد الوطنية، مما ساهم في تدهور الوضع الاقتصادي وزيادة سخط الشعب السوري تجاه الحكومة.
5. التوترات الطائفية: بشار الأسد، مثل والده، اعتمد على تحالفات مع الطائفة العلوية في سوريا، مما خلق انقسامًا طائفيًا في المجتمع السوري. هذا التوجه دفع العديد من الأقليات والطوائف الأخرى إلى الشعور بالتهميش والقلق من مستقبلهم تحت حكم النظام، مما زاد من الاحتقان الاجتماعي.
6. رد الفعل العنيف على الاحتجاجات الشعبية: عندما اندلعت الاحتجاجات الشعبية في عام 2011، رد النظام بعنف شديد، مما أسهم في تصعيد الأزمة وتحويل الاحتجاجات إلى صراع مسلح، حيث أن العنف المفرط ضد المتظاهرين السلميين دفع العديد من السوريين إلى الانضمام للمعارضة، سواء المسلحة أو السياسية، مما أدى إلى نشوب حرب أهلية.
7. التدخلات الخارجية: الدور الخارجي لعب دورًا حاسمًا في تصعيد الصراع داخل سوريا. الدول والقوى الإقليمية والدولية قدمت دعمًا لجهات متصارعة في الحرب السورية، مما أدى إلى تحويل الصراع إلى حرب بالوكالة بين قوى إقليمية ودولية ذات مصالح متضاربة. هذا التدخل الخارجي أضاف تعقيدًا إضافيًا للأزمة وأدى إلى استمرارها لسنوات طويلة، مما أسهم في تدمير البنية التحتية في سوريا وتفاقم معاناة الشعب السوري.
وعلى الرغم من الإرادة السورية في تغيير نظام الأسد، إلا أن أهم أسباب سقوط النظام هو التدخل الأمريكي الغربي، لإنهاء الأنظمة التي تعارض السياسات التي تفرط في المنطقة، والتي يراها الكثير في إطار الشرق الأوسط الجديد وداعما لإسرائيل، وهذا ما تأكد بعد استمرار العدوان الهمجي على الشعب الفلسطيني واللبناني، بتدخل مباشر، من خلال الدعم العسكري الهائل، والدعم السياسي في انحياز واضح وإفشال لدور الأمم المتحدة ومنظماتها لإحلال السلام .
وقد استعانة الدولة السورية في بداية الحرب الأهلية بحلفائها وفي مقدمتهم روسيا الاتحاد التي قدمت الدعم العسكري والسياسي، وبطبيعة الحال تدخل إيران عسكريا واقتصاديا وحزب الله كذلك الذي تورط في هذه الحرب بشكل مباشر، مما أسهم في إنهاء الحرب أو خفوتها واستعادة الجيش السوري السيطرة على مساحة من الأراضي والمدن الكبرى، ولكن الضغوط والعقوبات الدولية، زادت من الصعوبات على النظام السوري وأضعفت قدرة النظام على استعادة السيطرة الكاملة على البلاد.
سوريا الجديدة
أخيرا سقط النظام السوري في 8 ديسمبر 2024، بشكل سريع بعد زحف قوات المعارضة السورية، حيث قادت هيئة تحرير الشام الهجوم بدعم من فصائل متمردة أخرى بما في ذلك الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا كجزء من الحرب الأهلية، حيث انهار الجيش السوري المنهك بعد سنوات من الحرب، وتداعياتها على الحياة الاجتماعية والاقتصادية، نتيجة العقوبات الاقتصادية.
فلم يستغل النظام لوقف الحرب منذ سنوات، لإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية جريئة وقوية وشجاعة فكانت نهايته سريعة، غير أنه من الصعب التنبؤ بشكل دقيق بمستقبل سوريا بعد سقوط الأسد، حيث يعتمد ذلك على مجموعة من العوامل المعقدة والمتداخلة. وإذا حدث هذا التغيير، فقد يكون له تأثيرات كبيرة على الوضع السياسي والاجتماعي في البلاد.
أولاً، من المتوقع أن يواجه النظام السياسي الجديد تحديات كبيرة تتعلق بترتيب القوى المتصارعة على الأرض، مثل الفصائل المعارضة والأكراد وقوى أخرى داخل سوريا. بالإضافة إلى ذلك، ستظل هناك تدخلات إقليمية ودولية من مجموعة من الدول، أهمها تركيا التي تسعى إلى مواجهة التهديدات الكردية التي تتخذ من المناطق السورية وتوسيع نفوذها في الشمال السوري، إضافة إلى دول أخرى كالولايات المتحدة الأمريكية وقطر والسعودية وإيران وروسيا والاتحاد الأوروبي.
أخيرا، إن سوريا اليوم أمام امتحان عسير من أجل إعادة بناء دولة ذات سيادة وقوة بعد سنوات من حكم عائلة الأسد، التي أدت إلى تدمير معظم جوانب الدولة السورية، فالطريق إلى الاستقرار والتعافي يحتاج إلى حل سياسي شامل يضمن التوافق بين جميع القوى السورية، واستعادة الشرعية الداخلية والخارجية، ويعالج القضايا الاقتصادية والاجتماعية والأمنية بشكل جذري.
وفي ظل النفوذ الإقليمي والدولي المعقد، سيكون على سوريا اجتياز العديد من التحديات لتحقيق تسوية حقيقية وإعادة بناء دولة بحجمها الجيوسياسي والتاريخي، ولا نبالغ إذا ما قلنا إن بناء سوريا جديدة، هو إعادة للوجه الحضاري والمجد التليد لهذا البلد الذي يضم حضارة تعد من أقدم الحضارات التي أسست أسست لحضارات ولدت بعدها.