العملة الإفريقية بين المطرقة والسندان: الهيمنة النقدية وخرائط السيطرة من الورقة حتى القرار

بقلم: رامي زهدي خبير الشؤون الإفريقية
لأن المال ليس ورقًا.. بل سيادة، من يتأمل الخريطة السياسية لإفريقيا لا يملك إلا أن يُبصر جراح الاستعمار التي لا تزال تنزف في جسدها الاقتصادي، رغم مرور عقود على نيل الاستقلال الرسمي. ويظهر ذلك جليًا في الملف النقدي، حيث لا تزال عملات القارة رهينة للقرار الخارجي، من حيث القيمة، والطباعة، والاعتماد الدولي. فالعملة لم تعد أداة مالية فحسب، بل أصبحت أداة ضغط جيوسياسي تستخدمها القوى الكبرى في إدارة حروبها غير المعلنة ضد الدول الناشئة. وفي هذا السياق، تبدو الحاجة ماسة لتحليل الوضع النقدي الإفريقي، واستعراض نماذج النجاح، مثل تجربة مصر في الحفاظ على سيادتها النقدية الكاملة، من الطباعة حتى قرار التعويم، بما يجعلها نموذجًا يمكن أن يُحتذى به في القارة بأكملها.
وتشمل خارطة العملات الإفريقية تنوع كبير بلا تكامل وبالتالي نقطة ضعف لا قوة وكان الأولي ان تكون للقارة عملات محدودة واسعة الإنتشار علي الأقل أن لم تكون عملة موحدة علي شاكلة اليوريو، فيبلغ عدد العملات المتداولة في إفريقيا أكثر من 40 عملة محلية، تتوزع بين مناطق الفرنكوفونية، الأنجلوفونية، والبلدان ذات التجارب النقدية المستقلة. لكن هذا التنوع، على أهميته، لم يُترجم إلى قوة جماعية، بسبب الارتباط القسري بالدولار واليورو، وغياب التكامل النقدي، ومحدودية التبادل البيني بالعملات المحلية.
وهناك مجموعة من العملات الأقوى والأكثر استقرارًا، منها مثلا، الدينار الليبي،الذي لا يزال يحتفظ بأعلى قيمة اسمية في إفريقيا، رغم هشاشة الاقتصاد بفعل الصراعات،والدينار التونسي المدعوم ببنية مصرفية قوية، واحتياطي نقدي مستقر، وأيضا البوتسوانا بولا، حيث يمثل نموذجاََ لإدارة جيدة للموارد، وشفافية مالية، ما أكسب العملة ثقة الأسواق.
وكذلك، الجنيه المصري الذي ورغم التحديات الاقتصادية والتضخم، يحافظ على دوره الإقليمي، ويُعد من العملات القليلة التي تُطبع وتُسك محليًا بالكامل في منشآت مصرية سيادية.
وهناك مجموعة من العملات الأوسع انتشارًا، مثل الفرنك الإفريقي (CFA)، وهو متداول في 14 دولة، لكنه مربوط باليورو وتحت الهيمنة الفرنسية وينتشر اكثر في غرب وجنوب غرب القارة.
كذلك، الراند الجنوب إفريقي، ويستخدم رسميًا وغير رسمي في عدد من دول مجموعة التنمية للجنوب الإفريقي (SADC) ولايعتد به الا في دول جنوب القارة، وهناك النايرا النيجيرية، الذي ورغم التضخم، تبقى العملة الأهم في غرب إفريقيا غير الفرانكوفونية.
وكذلك هناك مجموعة العملات الأضعف والأقل استقرارًا، كالشلن الصومالي وهو شبه معدوم التداول بسبب انهيار الدولة المركزية،الدولار الزيمبابوي وهو الذي شهد تضخمًا كارثيًا وصل إلى طباعة أوراق بقيمة 100 تريليون دولار.
وكذلك، الفرنك الغيني والليوني السيراليوني والتي تأثرت بانهيار البنية التحتية وضعف الاستثمار الأجنبي.
"مصر.. نموذج للسيادة النقدية الكاملة"
الجنيه المصري: التاريخ والقوة الرمزية
صدر الجنيه المصري لأول مرة عام 1836، وكان لفترة من الزمن مغطى بالذهب ويُعتبر من أقوى العملات في المنطقة. وقد مر بمراحل متعددة من الإصلاح والتعويم، أبرزها تعويم 2016، ثم التغيرات اللاحقة حتى العام 2024.
ورغم التحديات، يُعتبر الجنيه المصري من العملات القليلة في إفريقيا التي تُطبع وتُسك بالكامل داخل حدودها، مما يمنحه سيادة نقدية لا تملكها كثير من الدول الإفريقية.
الهيئات السيادية المعنية
مطبعة البنك المركزي المصري في القاهرة والمدينة النقدية بالعاصمة الإدارية الجديدة تُعد من الأكبر والأكثر تقدمًا تكنولوجيًا في القارة.
دار سك العملة المصرية التي تأسست عام 1950، وتُعد من أقدم وأقوى مؤسسات سك العملة في العالم العربي والإفريقي.
المدينة النقدية الجديدة التي دشنتها الدولة ضمن رؤية مصر 2030، لتأمين السيادة النقدية الكاملة.
والذي يميز التجربة المصرية هو حدوث اكتفاء ذاتي في الطباعة والسك دون الحاجة لأي طرف أجنبي،وتحكم كامل في العرض النقدي، ومرونة في إدارة التعويم وتحرير سعر الصرف، وكذلك استخدام تقنيات أمان متقدمة تحمي العملة من التزوير، ما يزيد من ثقة المستثمرين والمؤسسات المالية الدولية.
"من يطبع لمن؟ خارطة الطباعة النقدية في إفريقيا"
طباعة العملة خارج القارة
أكثر من 20 دولة إفريقية لا تملك مطابع عملات خاصة بها، وتلجأ إلى شركات أوروبية، أبرزها:
Oberthur Fiduciaire الفرنسية.
Giesecke+Devrient الألمانية.
De La Rue البريطانية.
وتُعتبر فرنسا اللاعب الأهم في طباعة العملات لدول الفرنك CFA، مما يمنحها قوة معنوية ومادية ضخمة على القرار النقدي لتلك الدول، ولهذا مخاطر عديدة بالاعتماد على الخارج في هذا الأمر السيادي الحيوي، مثلا التأخر في تسليم العملة خلال الأزمات، مما يعطل الاقتصاد، وإمكانية فرض شروط سياسية في المقابل، وكذلك قابلية العملة للتزييف أو التسريب، خصوصًا في أوقات الاضطرابات.
"العملة كسلاح جيوسياسي في الحروب التجارية"
العملات لا تُستخدم فقط كأداة للتبادل، بل باتت أحد أهم أدوات الحرب الباردة الاقتصادية. وتبرز صور ذلك في عملتي الدولار واليورو، حيث تستخدم الولايات المتحدة نظام سويفت والهيمنة على الدولار كأداة لعزل دول إفريقية معينة (كالسودان سابقًا)،كما تفرض أوروبا قواعد صارمة لتحويل اليورو، تؤثر على مصارف في إفريقيا الوسطى والغربية.
وأيضا اجبار علي تعويمات مفروضة، فكثير من دول إفريقيا تعرّضت لضغوط من صندوق النقد الدولي لتعويم عملاتها مقابل قروض، مما أدى إلى ارتفاع التضخم وفقدان الثقة الشعبية.
إضافة إلي التبادل بين الدول الإفريقية بالدولار،فحتى التجارة بين دولتين جارتين غالبًا ما تتم بالدولار الأميركي، مما يعني خروج احتياطي دولي دون داعٍ، وضعف للاقتصادات المحلية.
"نحو سيادة نقدية إفريقية"
نحو سيادة نقدية إفريقية تحتاج الدول الإفريقية لمزيدا من الدعم للتكتلات النقدية الإقليمي، دعم مشاريع مثل "الإيكو" في غرب إفريقيا و"العملة الموحدة في سادك" و"عملة شرق إفريقيا" يُمهّد الطريق لتقليل الاعتماد على العملات الأجنبية.
وأيضا، تعزيز القدرات المحلية في الطباعة والسك، نموذج مصر يمكن نقله لدول إفريقية أخرى، من خلال بناء مطابع وطنية وإقليمية بالتعاون مع شركاء تقنيين، مثل مصر، جنوب إفريقيا، والمغرب، او الإتجاه للطباعة في الدول الإفريقية التي تمتلك إمكانات للطباعة وسك العملات.
أيضا، الاعتماد على العملات المحلية في التبادل التجاري، من خلال دعم اتفاقية التجارة الحرة القارية (AfCFTA) بتسهيلات بنكية ومصرفية للتعامل بالعملات المحلية بين الدول.
وكذلم، الاستثمار في العملات الرقمية السيادية، حيث يمكن لكل دولة إصدار عملة رقمية محلية (مثل الجنيه الرقمي المصري المنتظر)، لتقليل الاعتماد على النقد المطبوع ورفع الكفاءة في التعاملات.
أخيرا، عندما تتحرر الورقة النقدية يتحرر القرار الوطني، فالسيادة الحقيقية لا تكتمل بدون استقلال نقدي. والعملات ليست مجرد أوراق مالية بل هي خرائط نفوذ وإرادة وطنية. النموذج المصري يُثبت أن تحقيق السيادة النقدية ممكن حين تتوافر الإرادة السياسية والقدرة المؤسسية. وآن الأوان لأن تتحول التجربة المصرية من نموذج وطني إلى خطة قارية، تقود فيها مصر القارة إلى لحظة تحرر نقدي شامل، تُطبع فيه العملات بأيدٍ إفريقية، وتُسك في أراضٍ إفريقية، وتُدار بعقول إفريقية مستقلة.