قراءة نقدية لمفهوم السودان الجديد وميثاق التأسيس: تفكيك خطاب قوى الهامش في ضوء التاريخ السوداني

بقلم: أحمد محمود أحمد
لا تزال الأزمة السودانية تراوح مكانها وسط محاولات متعددة للخروج من عنق الزجاجة، بدءًا من مشاريع النخب السياسية، وصولًا إلى أطروحات قوى الهامش التي رفعت شعار "السودان الجديد". في هذا المقال، يقدم الكاتب أحمد محمود أحمد قراءة تحليلية عكسية لمفهوم السودان الجديد كما تطرحه قوى الهامش، وينتقد ميثاق التأسيس الذي وقّعته هذه القوى، ساعيًا لتفكيك الخطاب ومناقشة جدلية الدولة السودانية بين الماضي والمستقبل.
النص:
يرى الكاتب أن الأزمة السودانية الراهنة هي نتاج لتراكمات استعمارية معقدة، زادتها تعقيدًا نخب ما بعد الاستعمار التي فشلت في تأسيس دولة مستقرة. وعلى مدار عقود، طُرحت مشاريع للخروج من الأزمة، كان أبرزها مشروع "السودان الجديد"، الذي تبنته الحركة الشعبية لتحرير السودان ثم تبعته قوى الهامش، مؤمنة بأن حمل السلاح كفيل بقطع الصلة مع "السودان القديم" دون تقديم تعريف دقيق لهذا المصطلح أو تقديم رؤية منهجية للقطيعة مع الماضي.
مفهوم السودان الجديد في أفق تاريخي:
يؤكد الكاتب أن مفهوم السودان الجديد لم يبدأ مع الحركة الشعبية، بل تعود جذوره إلى أحزاب اليسار السوداني، التي طالما نادت بالمساواة والعدالة والوحدة الوطنية الطوعية وفصل الدين عن الدولة والاعتراف بالتنوع الثقافي. ورغم تبني قوى الهامش لهذه المبادئ، إلا أنها أسقطت البعد التنموي والاقتصادي الشامل، وركزت على التهميش العرقي والإثني في أقاليم بعينها، متجاهلة أقاليم أخرى مثل الجزيرة والشمالية وشرق السودان، بل وحتى التهميش داخل العاصمة نفسها.
يشير الكاتب إلى أن الأزمة السودانية تكمن أساسًا في غياب التنمية المتوازنة، ما أدى إلى خلل بنيوي في الدولة، وليس فقط في تهميش مناطقي قائم على العرق. ويُذكّر بأن قضايا السودان الجديد لم تكن غريبة عن الفكر السوداني؛ فقد نادى بها أيضًا المفكر محمود محمد طه، الذي دعا لدولة ديمقراطية تفصل الدين عن السياسة وتحترم الحريات والتعدد، مقدمًا رؤية تقدمية شاملة.
تفكيك دولة 1956 والمنحى الخطأ:
ينتقد الكاتب تركيز قوى الهامش على مصطلح "دولة 56"، وكأن كل الإشكالات بدأت بعد الاستقلال مباشرة، متجاهلة تأثير الاستعمار وما قبله. ويرى أن وصف الدولة بعقل "عروبي إسلامي" أو "عقل الجلابة" يتجاهل أن العروبة والإسلام جزء أصيل من كل السودان، وليس حكرًا على وسطه النيلي. ويقترح استبدال هذا التوصيف بالنقد الموجه للعقل الأحادي الذي تمثله بعض نخب الشمال، خاصة التيارات الدينية والأحزاب التقليدية والعسكرية.
ويرى الكاتب أن أي انتقال نحو "سودان جديد" يتطلب قطيعة منهجية مع هذا العقل الأحادي، لا قطيعة كاملة مع الماضي الذي يحمل أيضًا نقاطًا مضيئة. ويستعير من المفكر المغربي محمد عابد الجابري تقسيمه للعقول داخل الثقافة العربية، ليطبقها على السودان: عقل عرفاني (يمثله التصوف)، عقل بياني (يمثله الفقه والتيارات الدينية)، وعقل برهاني (يمثل التفكير النقدي والعلمي).
الصراع المدني وحمل السلاح:
يدافع الكاتب عن دور القوى المدنية في مقاومة الأحادية وعسكرة الدولة، محذرًا من المبالغة في تمجيد العمل المسلح الذي لم يحقق تغييرًا حقيقيًا، بل أدى لانفصال الجنوب واستمرار الحروب. ويرى أن السلاح يجب أن يكون وسيلة للتحرير في سياق سياسي محدد، لا غاية بحد ذاته، وإلا تحول إلى أداة لإعادة إنتاج العنف.
نقد ميثاق التأسيس:
ينتقد الكاتب "ميثاق التأسيس" الموقع في نيروبي فبراير 2025، رغم إقراره بنقاط إيجابية مثل الدعوة للدولة المدنية والمساواة والوحدة الطوعية وحقوق الإنسان. لكنه يرى أن الميثاق أغفل قضايا حيوية، أبرزها التعليم، إذ لم يقدم رؤية واضحة لبناء نظام تعليمي يرسخ الوحدة الوطنية إلى جانب التنوع. ويتساءل عن لغة التعليم: هل ستُدرس باللغات القبلية أم بلغة وطنية جامعة؟ محذرًا من أن التركيز المفرط على التنوع قد يقود للتقسيم بدلًا من الوحدة.
كذلك ينتقد وصف السودانيين بـ"الشعوب" في الميثاق، معتبرًا أن هذا المصطلح ينسف فكرة الوحدة الطوعية، لأنه يضع السودانيين في جزر معزولة بلا أرضية موحدة تجمعهم، متجاهلًا التاريخ المشترك والمصالح المشتركة التي أنتجت الهوية السودانية.
الخلاصة:
يخلص الكاتب إلى أن تجاوز الأزمة السودانية يتطلب قراءة شاملة للتاريخ السوداني بكل تعقيداته، لا قطيعة ميكانيكية معه. كما يدعو إلى تكامل قوى الهامش والقوى المدنية المؤمنة بالدولة المدنية، على أسس جديدة، لبناء سودان ديمقراطي تعددي، يستوعب جدلية الوحدة والتنوع دون الوقوع في فخ الانعزال أو إعادة إنتاج الماضي.