سياسات الحماية الجمركية وتداعياتها: قراءة في تجربة ترامب في ضوء أزمة 1929

بقلم: د. كمال دفع الله بخيت – الباحث في العلاقات الدولية والتنمية
في ظل التحولات الاقتصادية العالمية المتسارعة، عادت السياسات الحمائية إلى واجهة النقاش الاقتصادي، لا سيما بعد أن تبناها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب كخيار استراتيجي خلال فترة حكمه، عبر فرض رسوم جمركية مرتفعة على الواردات. ورغم أن هذه الإجراءات كانت تهدف إلى إنعاش الاقتصاد الأمريكي، فإنها أثارت مخاوف واسعة من احتمالية تكرار سيناريو الكساد الكبير الذي شهده العالم عام 1929.
تتناول هذه الورقة أوجه التشابه بين السياسات الاقتصادية التي انتهجها ترامب وتلك التي ساهمت في تفاقم أزمة الثلاثينيات، مع محاولة تقييم تداعيات هذه السياسات في ظل الاقتصاد العالمي المعولم.
أولاً: سياسات ترامب الحمائية... محاولة لإعادة التاريخ؟
رغم تراجع ترامب مؤقتاً عن فرض بعض الزيادات الجمركية، إلا أن مجرد الإعلان عنها كان كفيلاً بإثارة اضطرابات في الأسواق العالمية. فقد ارتفعت أسعار الذهب، وانخفضت أسعار النفط، وبقيت أسعار السلع الاستهلاكية عند مستويات مرتفعة، ما عكس قلق المستثمرين والمستهلكين.
ترامب أعاد للأذهان تجربة تعرفة "سموت-هاولي" الشهيرة في ثلاثينيات القرن الماضي، التي أدت إلى سلسلة من الردود الانتقامية من دول العالم، تسببت في انخفاض التجارة العالمية بنسبة 66%. ورغم تحذيرات أكثر من 1000 خبير اقتصادي، أصر ترامب على السياسات ذاتها التي تسببت في أزمة 1929، متجاهلاً دروس الماضي.
الاقتصاد العالمي اليوم أكثر ترابطاً مما كان عليه قبل قرن، وسلاسل التوريد متشابكة بشكل يجعل من السياسات الحمائية تهديداً مباشراً للتجارة العالمية وللاستقرار الاقتصادي العام.
ثانياً: العواقب المحتملة للحمائية في عالم مترابط
لا تقتصر آثار الحمائية على العلاقات التجارية الثنائية، بل تمتد لتشمل بنية الاقتصاد العالمي بالكامل. إذ يؤدي فرض الرسوم الجمركية إلى تعطيل سلاسل التوريد الدولية، ويدفع إلى انخفاض الاستثمار، وتهديد الوظائف، ويعرض الأسواق المالية لموجات من الانهيار تبدأ من البورصات وتصل إلى المؤسسات المالية، وصولاً إلى أزمات سيولة قد تعصف باقتصادات الدول الفقيرة.
هذا النهج يتناقض بوضوح مع المبادئ التي أرساها النظام الاقتصادي الليبرالي منذ كتاب "ثروة الأمم" لآدم سميث، ويتعارض مع قواعد التجارة العالمية التي أرستها اتفاقية "الغات" عام 1947، والتي أكدت على تقليص القيود الجمركية وتحرير الأسواق.
ثالثاً: ردود الفعل الأمريكية والعالمية
لم تقتصر الانتقادات لسياسات ترامب على المجتمع الدولي فقط، بل ظهرت مواقف معارضة قوية من داخل الولايات المتحدة. فقد أشار الكاتب توماس فريدمان في مقال بصحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 15 أبريل 2020، إلى أن ترامب يغامر بتدمير الأسس الاقتصادية التي قامت عليها قوة أمريكا. وأكد أن تلك السياسات لا تقوم على رؤية اقتصادية واضحة، بل تنطلق من دوافع انتقامية وشخصية، تهدد علاقات واشنطن مع حلفائها وتؤثر سلباً على المواطن الأمريكي نفسه.
في النهاية لقد أثبت التاريخ أن السياسات الحمائية لا تقود إلى نمو اقتصادي حقيقي، بل تخلق توترات تجارية وركوداً يصعب السيطرة عليه. وتكرار أخطاء الماضي تحت شعارات قومية، كـ"أمريكا أولاً"، قد يعيد العالم إلى أجواء أزمات اقتصادية كارثية، تماماً كما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي.
إن العبرة التي يجب أن نستخلصها من تجربة 1929 واضحة: العالم لا يتحمل انغلاقاً اقتصادياً جديداً، خاصة في عصر باتت فيه الاقتصادات أكثر تشابكاً وتأثراً بسياسات بعضها البعض.