حرية الثقافة وثقافة الحرية
بقلم: محمد الأمين أبو زيد
من الصعب للغاية الفصل بين مفهومي حرية الثقافة وثقافة الحرية نظرًا للترابط العميق والعلاقة الجدلية التي تربط بينهما. فهما يعكسان ثنائية متكاملة تتجسد أيضًا في العلاقة بين الديمقراطية الثقافية والثقافة الديمقراطية. في هذا السياق، يُشير المفهوم إلى دور الثقافة في تعزيز الحياة الديمقراطية من خلال نشر قيم الديمقراطية والتعددية والتنوع والاختلاف.
لا يمكن تصور ازدهار ثقافي وإبداع إنساني في ظل غياب الديمقراطية؛ إذ إن غيابها يؤدي إلى سيادة ثقافة الانحطاط الأخلاقي والقيمي، ونشر الجهل، وتعزيز ثقافة القطيع، كما نرى في مجتمعاتنا خلال فترات الدكتاتورية. وبالتالي، تُعد الثقافة شرطًا ضروريًا ومحركًا أساسيًا لعملية التغيير الاجتماعي والتفاعل الحضاري والتقدم والنهضة.
وفي ظل هذا الترابط، أثار العديد من النقاشات حول علاقة المثقف بالالتزام وبالسلطة. فالعلاقة بين الثقافة والمثقف والسلطة بمعناها السياسي تُعد علاقة شائكة تدور في إطار العلاقة بين التنوير والحرية والديمقراطية والمواطنة والعدل الاجتماعي. هنا، يمثل الالتزام أعلى مراحل الحرية؛ فبدون الالتزام، تتحول الحرية إلى فوضى. وحرية التفكير تُعد شرطًا أساسيًا للإبداع؛ إذ إن ممارسة الأنشطة المختلفة في أجواء من الحرية تحفز الإنسان على الإبداع وتوفر له مساحة للرأي الحر والتفكير المستقل، مما يخلق منه إنسانًا حقيقيًا لا يخاف ولا يكذب.
عند الحديث عن الحرية والثقافة، يجب علينا أن نميز بين نوعين من الثقافة: ثقافة التخلف وثقافة التقدم. ثقافة التخلف تُعيد المجتمع إلى الوراء، وتحبسه في الماضي الذي يُقاس عليه كل شيء، مما يؤدي إلى انحدار تاريخي وشيوع ثقافة التعصب والاستبداد الديني والسياسي والفكري. هذه الثقافة، التي تبنتها العديد من التيارات السياسية والفكرية، قادت إلى نشر ثقافة الإذعان والطاعة ورفض الاختلاف وتقديس الحكام. وهذا النموذج له شواهده في مجتمعنا السوداني والعربي والإفريقي، حيث أفرز تنظيمات أصولية سلفية متطرفة.
أما ثقافة التقدم فهي الثقافة المنفتحة التي تدرك طبيعة العلاقة بين الأصالة والمعاصرة، وتنظر إلى التراث نظرة جدلية وليست جامدة. تقوم هذه الثقافة على إشاعة الحرية والتنوير وتنمية روح النقد والإبداع. المثقف الفاعل أو العضوي هو المثقف الذي يلتصق بمجتمعه، ويقدم الوعي النقدي، ويسعى إلى تجذير المساءلة، ويعمل على الانطلاق نحو المستقبل مرتكزًا على الحاضر. علاقته بالدولة هي علاقة مواطنة، حيث يرى في الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة دولة تقوم على المساواة في الحقوق، والفصل بين السلطات، والدستور الرشيد، والقوانين العادلة.
تُعد الحرية بمعناها الواسع مرتكزًا أساسيًا لبناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، وتكوين الإنسان الواعي المستنير. هذه الحرية، حين ترتبط بالثقافة، تصبح قوة دافعة نحو التقدم، والازدهار، والإبداع.