الأزمة الليبية: قراءة في الواقع الاجتماعي والسياسي

الأزمة الليبية: قراءة في الواقع الاجتماعي والسياسي
إدريس أحميد - وكالة وادي النيل

بقلم: إدريس احميد – صحفي وباحث في الشأن السياسي المغاربي والدولي

في كل مرحلة من تاريخ ليبيا الحديث، كان الإنسان الليبي حاضرًا، متأثرًا ومؤثرًا، شاهدًا على تحولات سياسية واجتماعية كبرى. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل كان المواطن واعيًا لهذه التحولات؟ وهل كانت النخب والمثقفون على قدر المسؤولية؟

كثير من الليبيين، عند زيارتهم لدول الجوار، يقارنون بين واقعهم وما يشاهدونه من استقرار وتنمية، ويتمنون أن تشهد بلادهم واقعًا مشابهًا. هذا يطرح إشكالًا جوهريًا: هل نمتلك فعلاً الإمكانيات؟ ولماذا يبرر من عاش المراحل السابقة إخفاقاتها، بدلًا من مواجهتها بموضوعية وشفافية؟

ليبيا: وطن الفرص الضائعة

ليبيا، هذا الوطن الجميل بجغرافيته المهمة وتاريخه الحافل بالنضال وتراثه الزاخر بالحضارات والتنوع الثقافي، تميّز بكونه بلدًا موحد الدين والمذهب، قليل التعداد، غني بالثروات الطبيعية، وخاصة النفط والغاز. وقد منّ الله عليه بموقع جغرافي استراتيجي، يربط شمال إفريقيا بجنوبها، والمشرق بالمغرب.

الإنسان الليبي: الهوية والتكوين

عبر قرون من الهجرات البشرية والتداخلات الاجتماعية، تشكلت بنية سكانية متنوعة في ليبيا، امتزجت فيها الروابط القبلية والعادات والتقاليد، لتنتج شخصية ليبية تتسم بالبساطة والوضوح والإنسانية. هذه الشخصية، رغم طيبتها، كثيرًا ما تم استغلالها في فترات الاستعمار، لكنها أظهرت، في ذات الوقت، صلابة ورفضًا للظلم.

تكون المجتمع الليبي في ظروف صعبة، تميزت بالفقر والجهل، ومع ذلك برزت شخصيات ناضلت ببسالة، وساهمت في تحقيق الاستقلال، سواء بالكفاح المسلح أو النضال السلمي.

من الملكية إلى سبتمبر

رغم قلة المتعلمين والمثقفين، شهدت ليبيا حراكًا سياسيًا في عهد المملكة بقيادة الملك إدريس السنوسي، تم فيه وضع دستور وانتخاب برلمان، وتأسيس دولة مدنية حديثة.

وفي عام 1969، جاءت مرحلة "ثورة الفاتح"، التي تبنّت مشروعًا اجتماعيًا وتنمويًا مستقلًا، واتبعت سياسة خارجية مناهضة للأنظمة العالمية التقليدية. وتمكنت في بداياتها من تحقيق تنمية ملموسة، واستثمارات دولية سبقت بها بعض الدول العربية والمتوسطية.

لكن مع بداية الثمانينات، بدأت ملامح التراجع تظهر، وتوقفت التنمية الشاملة، في ظل تضييق الحريات، وتفكك المؤسسات، مما هيّأ البيئة لانفجار لاحق.

ثورة فبراير 2011: الأمل والتحديات

اندلعت ثورة فبراير على وقع مطالب واقعية، أبرزها البطالة والتهميش وانتشار الفساد. لكن السؤال الأهم: هل كانت هناك قيادة وطنية ومشروع واضح؟ وهل كان من الممكن تجنب التدخل الأجنبي؟

الانقسام بعد الثورة أفرز مشهداً معقداً: مؤيدون للنظام السابق رأوا في فبراير كارثة، بينما وقف آخرون مع التغيير بحثًا عن مستقبل أفضل. أما اليوم، وبعد أكثر من 14 عامًا من الفوضى، فالوطن غارق في السلاح، والانقسام السياسي، والفساد.

الأمن المفقود والتنمية المؤجلة

رغم تعثر الانتخابات مرتين، فإن ثلثي البلاد، في الشرق والجنوب، تنعم بمستوى ملحوظ من الأمن والاستقرار، بجهود القيادة العامة للجيش الليبي، مقارنة بالفوضى ووجود المليشيات في الغرب، مما يجعل أولوية المرحلة محل نقاش: هل نبدأ بالانتخابات؟ أم نبني دولة المؤسسات بعد استعادة الأمن الكامل؟

الرؤية الخارجية والحل المفروض

لقد جربت الحلول التي تأتي من الخارج في عدة دول، وكانت في غالب الأحيان فاشلة ولم تؤدِ إلى حلول نهائية. هذه الحلول عادة ما تكون بمثابة "ثوب مفصّل لا يناسب من يرتديه". لذلك، لابد أن يكون الحل ليبيًا-ليبيًا، نابعًا من إرادة الليبيين، ويعكس الواقع السياسي والاجتماعي للبلاد.

خاتمة: تشخيص وجذور الأزمة

نعتقد أن الأزمة الليبية تتلخص في غياب الوعي الاجتماعي والثقافي، نتيجة توقف التنمية، وتنامي ثقافة التعصب القبلي والجهوي، التي تبنتها – ويا للمفارقة – بعض النخب والمثقفين. لقد انكشفت هذه الفئات في أول اختبار حقيقي، وظهر أن الأزمة الحقيقية تكمن في البنية الذهنية للمجتمع الليبي، وليست فقط في الأنظمة.

ونعتقد بأن على الليبيين الوصول إلى قناعة بأن أهم أسباب الأزمة هو الخلل في الوعي الاجتماعي، من خلال مظاهر سلبية غرست في الشخصية، وعززت ثقافة الولاء والخوف، مما يفتح الباب للتساؤل: هل ما حدث كان ثورة، أم انقسامًا مجتمعيًا؟

ولذلك، نحن بحاجة إلى سلطة قانون تُعيد للدولة هيبتها، وتنشر ثقافة المؤسسات، والعدالة، والدولة المدنية. لأن هذا الواقع لن يبني الدولة التي ننشدها نظريًا، ويصعب علينا تحقيقها عمليًا دون إعادة بناء الفكر وتغيير العقلية والتركيبة الاجتماعية.